تعتبر مهمة التدريس من بين المهام الأشد تركيبا وتعقيدًا ، فهي ليست حرفة عادية كباقي الحرف الأخرى التي يخضع جهد الممتهن فيها لنمطية معينة مدروسة و معلومة المداخل والمخارج، إنما هي عملية لا تستقيم على طريقة واحدة ، ولا تركن إلى نهج منضبط ، وتتعدد مداخلها ومخارجها بتقلب الظروف و الأجواء ، و طبيعة الدرس المعالجَ ، وسر ذلك يكمن في كون العلاقة هنا : علاقة مدرس بمتعلم ، ومعلوم أن أصعب ما في الأمر ، التعامل مع العنصر البشري كالمتعلم الذي يعتبر عالما مجهولا، وغامضا أحيانا ، ويزداد غموضا في سن المراهقة ، حيث يخضع لتحولات سريعة و مشاعر متقلبة ، مما فرض على المدرس أن تكون لديه معرفة معمقة بهذه الشخصية .
إن التدريس كما يعرفه عدد من المهتمين : " علم وفن " ، علم يخضع لجملة من المبادئ والمعايير التي لا بد من توفرها في كل مدرس ، ونعني هنا المستوى العلمي و البيداغوجي . و فن ومهارة لا تكتسب إلا بالممارسة الميدانية ، ولا تصقل إلا بالتجربة المستمرة ، وهذا هو بيت قصيدنا .
إن من عوامل نجاح المدرس في درسه ، استحضاره لعنصر التشويق والإثارة ، الذي يمكن المتعلم في أغلب الأحوال من الانقياد للدرس بكل تلقائية وعفوية .
أحببت أن أسلط الضوء على هذا الموضوع ، لاقتناعنا ويقيننا بأن هذا الأمر يعد من ركائز نجاح العملية التربوية ، ويحضر بقوة عندما يتعلق الأمر بمواد العلوم الإنسانية .
يعمل التشويق في الدرس عملا عظيما في أخذ انتباه المتعلم وجعله يتفاعل وجدانيا ، ويشارك بكل بما يحظى به من مؤهلات معرفية و مهارية ، وجرت العادة أن الخطابات التي تفتقر لهذا العنصر ، غالبا ما تكون مملة وتصرف المخاطبَين عنها ، بالرغم من أهمية المحتوى وجديته ، وبالرغم من مستوى المخاطَبين وقدرتهم على استيعاب الخطاب ، أما و الحال يتعلق بالمتعلم المراهق الرهيف الشعور ؛ الذي لا يجتهد كثيرًا في استيعاب الخطاب ، فإن عنصر التشويق يعتبر من لوازم شد انتباهه ، و يفشل الدرس أحيانا عند غياب هذا العنصر بالرغم من مجهود المدرس ومستواه العلمي .
إن اعتماد المدرس عنصر التشويق في درسه ليس أمرًا هينا ، خاصة في هذا العصر الذي انفتح فيه المتعلم بشكل لم يكن معهودًا ، على عدد من المثيرات التي أفرزتها التغيرات الحضارية الحديثة ، و التي يعد عنصر التشويق من بين أساسياتها . لقد انفتح المتعلم اليوم على عدد من المنافسات على رأسها وسائل الإعلام ، خاصة المرئية منها ، التي فرضت نفسها بالقوة ، واكتسحت أذهان المراهقين من المتعلمين وغيرهم ، ومررت العديد من القيم التي بدأت تطفو يوما بعد يوم على سلوك المتعلم المراهق ، و لا مجال للمقارنة بين حجم ما يتلقاه المتعلم من وسائل الإعلام ، وبين ما يمكن أن يستفيذه من خلال حصة دراسية في مادة التربية الإسلامية مثلا .
على المدرس أن يدرك بحضور منافس قوي يشد انتباه المتعلم ، وهذا المنافس يتفانى في توظيف العديد من الوسائل المثيرة ، ويزداد الأمر صعوبة في ظل الوسائل التقليدية التي يعتمدها المدرس في إنجاز الدرس ، ففي الوقت الذي يقتصر فيه المدرس على لوحة سوداء ، ووسائل تقليدية ، فإن وسائل الإعلام المعاصرة توظف كل العناصر التي تسرق انتباه المتعلم وبسرعة.
لكن على الرغم من اعتبار عنصر التشويق في الدرس ، وشد انتباه المتعلم أمرًا ليس بالهين في ظل هذه التغيرات ، إلا أنه لا يعتبر أمرًا مستحيلا . يستطيع المدرس الماهر أن يخلق أجواء داخل فصله مشحونة بالإثارة و التشويق ، ويكون لها أثرًا عظيما في إنجاح الدرس وتحقيق الكفايات المطلوبة ، بالرغم من المستوى العلمي المتواضع الذي يحظى به كل مدرس؛ لأن هذا الأمر يرتبط أساسا بالقدرات المهارية ، أكثر مما يرتبط بالقدرات المهنية ، وقد جرى التأكيد عند خبراء التنمية البشرية أن القدرات المهارية ، هي التي تحسم في مسألة نجاح أو فشل الشخص ، وتحظى بنسبة متفوقة على القدرات و المؤهلات المهنية التي تتوفر عند كل شخص حسب ميدان امتهانه واحترافه .
إن الأمر يحتاج من المدرس أن يستنفر طاقاته ، و يستفرغ وسعه ، ولا يدخر شيء من مجهوداته ، في محاولة إقناع المتعلم وإشباع رغباته ومتطلباته ، وجعله ينقاد طواعية للدرس . إن الأمر يحتاج مهارات فنية ، لا تكتسب إلا بالتجربة المستمرة ، وبالممارسة الميدانية مع فئات المتعلمين ، خاصة المراهقين .
من خلال هذه المساهمة سوف أقترح بعض الخطوات التي أراها مهمة وكفيلة في تحقيق عنصر التشويق ، وهذه المقترحات هي من ثمرات تجربتي الميدانية التي أكسبتني بعض المداخل ، التي نفهم من خلالها احتياجات المتعلم خاصة المراهق و متطلباته من الدرس .
إن السر في نجاح الدرس كيف ما كان موضوعه ، رهين باستيعاب عالم المتعلم ، واكتشاف البعد المهاري و الحس حركي و المعرفي في شخصيته ، مع العلم أن هناك جوانب تظل غامضة لا يمكن فهمها واستيعابها إلا بعد الإصغاء و الاستماع الجيد للمتعلم ، وحبذا لو كانت هناك نوادي داخل المؤسسات التعليمية تعنى بهذه القضية ؛ لأنها مفتاح لتفسير عدد كثير من المشكلات التربوية التي تقع داخل المؤسسات ، كظاهرة العنف المدرسي وغيرها .
قبل الحديث عن بعض العناصر المطلوبة لتحقيق عنصر التشويق والإثارة في الدرس ، أحببت أن أبدأ ببعض الأسباب التي هي جملة من المثبطات ، التي تنفر المتعلم من الدرس ، وتصرفه عنه ، من بين هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر:
1. البعد عن الواقع في معالجة الدرس ، والمقصود هنا بالواقع ، واقع المتعلمين و اهتماماتهم .
2. الرتابة و الجمود على أساليب تعليمية تقليدية ، وعدم الانصراف عنها ، كأن يعتمد مثلا المدرس الطريقة العمودية في جميع فقرات درسه .
3. الافتقار إلى ضرب الأمثال ، واستحضار النماذج المناسبة عند معالجة قضايا الدرس .
4. عدم مراعاة خصوصيات الفئة المستهدفة ، من حيث كيفية التواصل ، و اللغة ...إلخ .
5. السرعة والاستعجال في إنجاز الدرس ، بصرف النظر عن تحقق المراد منه .
6. عدم إفساح المجال للحوار بين المتعلمين ، لتبادل وجهات النظر بينهم .
7. تغليب الجانب الكمي على الكيفي ، أو بعبارة أخرى التركيز على الجانب المعرفي ، مقابل إغفال الجانب السلوكي و المهاري أو الامتثالي ، خاصة في مادة التربية الإسلامية الحاملة للقيم ، والتي تعتبر فيها المعرفة معرفة وظيفية ليس إلا .
8. عدم التموقع و التموضع الجيد داخل الفصل ، الذي لا يمكن المتعلمين من الانشداد إلى المدرس .
9. التوتر و الارتباك في معالجة الدرس ، والذي يدل صراحة على عدم جودة الإعداد وجديته .
10. خلو الدرس من اللطائف و المستملحات التي تثير الدافعية لدى المتعلمين .
11. المرور مرور الكرام على بعض التدخلات ، والاستفسارات ، و التساؤلات ، التي يطرحها بعض المتعلمين ، مما يشعرهم بعدم الاكتراث ،فلا يعاودون الكرة مرة أخرى .
12. عدم إفساح المجال للخطإ ، وتوفير جو من الحرية للتلميذ يشارك بواسطتها بكل ما يملك من مؤهلات معرفية ووجدانية .
13. العنف في الخطاب أو تعنيف المتعلمين ، الذي لا يغير قناعة ، ولا يصحح تمثلا ، ولا يرسخ قيمة ، ويفقد أحيانا بواسطته المدرس أواصر الارتباط بينه وبين تلامذته .
هذه بعض الأسباب التي تنزع الحياة عن الدرس ، وتقتل بوادر الإقبال عليه ، وتبعثر طموحات كل متعلم فيه ، وتجفف منابيع التشويق والإثارة ، وتجعل عمل المدرس يدور في حلقة مفرغة مع كل حصة دراسية ، فلا يقوى بعدها على العمل، ولا يجد أحيانا من يصغي إليه ، فتخور قواه وتتعطل عطاءاته ، ويستحوذ عليه الكسل والجمود ، حتى يصيرا ديدنا له . وعندما نتأمل في واقعنا نجد العديد ممن بلغ هذا المستوى ، بسبب من الأسباب المذكورة ، وصار يرى في مهنة التدريس مجرد تكاليف تنتهي بانتهاء المدة الزمنية المخصصة لكل حصة دراسية . في ظل هذه الأجواء ينكسر الجد و يأفل نجم الحيوية ، ولا تتحقق الجودة المنشودة .
بناء على ما سبق نستطيع أن ندرك مدى أهمية حضور عنصر التشويق في الدرس ، الذي يعيد أواصر الارتباط بين المدرس ومتعلميه، ويبعث على الحيوية و النشاط لكلا الطرفين .
ثمة وجود العديد من العناصر المساعدة والمعينة على ذلك ، سنقتصر في الفقرات الآتية على بعض منها نراها مناسبة ولها أهمية قصوى ، وهي عناصر ضرورية وليست مستحيلة ، ولا يملك المدرس التماس الأعذار فيها بحكم أنها صعبة المنال وليست في المستطاع ، بل هي مجموعة من المهارات تكتسب طبعا بالتجربة وتصقل بالممارسة الميدانية ، وهذه العناصر حاولنا أن نستوحيها من واقع تجربتنا ، دون الرجوع فيها إلى المصادر والمراجع المهتمة بالموضوع ، علما أن المطلع عليها قد يجد العديد منها مما لم نقف عليه في مساهمتنا هذه ، وقد تعمدنا عدم الرجوع إلى المصادر و المراجع المهتمة بالأمر ، واقتصرنا على واقع تجربتنا ، حتى نكون أقرب من واقع العلمية التربوية و حتى نكون صادقين ما أمكن .
إن من بين العناصر التي تضخ الحياة في الدرس و تشوق المتعلمين إليه ، وتحفزهم على الانخراط فيه والاقبال عليه بكل تلقائية، ما يلي :
- الانطلاق من وضعية مشكلة تعالج واقع المتعلم وتتمحور حول اهتماماته.
الانطلاق من وضعية مشكلة ، فرصة لاكتشاف واقع المتعلم ، و فهم تمثلاته ، وهذا من حسنات البيداغوجيا الجديدة المبنية على المقاربة بالكفايات . إذا اجتهد المدرس في التركيز على اهتمامات المتعلمين ، ودمج الدرس بقضايا تهم المراهق ، استطاع أن يشد أذهانهم و يشوقهم في الدرس ، وكلما كان الدرس بعيدًا عن اهتمامات المتعلم كلما انصرف عنه ، لذلك ينبغي على المدرس أن يختار لكل درس منفذا من المنافذ يطل بها على واقع المتعلم ، ومن خلال تجربتنا فإن هذه النقطة نعتبرها جوهرية في حضور عنصر التشويق والإثارة في العملية التربوية .
المطلوب من المدرس أن يكون مطلعا على اهتمامات المتعلمين مستشعرًا للقضايا التي تثير حب الفضول فيهم . على سبيل المثال أغلب المتعلمين في سن المراهقة يجبون المواضيع الرياضية ، خاصة كرة القدم ، لا بأس أن يقحم المدرس جانبا من هذه الجوانب في الدرس إذا كانت خادمة له ، ولو حتى من أجل تغيير تمثل ، أو ضرب مثل ، أو ترسيخ قناعة ، أو فكرة ...
- تنويع المدرس للطرق و أساليب التدريس.
لكل درس خصوصياته ينفرد بها عن الدروس الأخرى ، و المدرس ينبغي أن يختار الطرق المناسبة لكل درس على حدة ، بل إن تنويع الطرق و الأساليب مطلوبة حتى داخل الدرس الواحد ، ومن بين الأخطاء التي يقع فيها العديد من المدرسين أنهم يلتزمون بطريقة واحدة ، وبأسلوب واحد في إنجاز الدرس ، هذا الأمر من بين الأسباب التي تؤدي إلى فشل التعلم على الرغم من المستوى المعرفي للأستاذ . أتذكر نموذجا من الأساتذة الذين تتلمذنا عليهم ، كان يلتزم بطريقة واحدة ، وبأسلوب واحد في جميع الحصص ، ولا يجتهد كثيرًا في التنويع وإضفاء الجمالية على الدرس ، فكان التلاميذ يشعرون بالملل المقيت كلما ولجوا حصته ، وبالمقابل نتذكر نماذج من الأساتذة كنا نشعر بالمتعة ونحن في حصتهم ، ولا زلنا نتذكر مواقف عظيمة جمعتنا بهم .
ضمن هذا العنصر ينبغي على المدرس أن يجتهد في التنويع من المستندات البيداغوجية ، من صور ، وجرائد ، ومقاطع فيدو إن أمكن ... لأن هذه العناصر تسرق انتباه المتعلم بسرعة ، وما يمكن أن يقدمه درس في غضون نصف ساعة أو حتى ساعة ، يمكن أن تختصره صورة معبرة في غضون دقيقة أو دقيقتين .
- استعمال أساليب الإيضاح والتخلص من التعقيد والغموض.
من بين العناصر المساعدة على تحقيق عنصر التشويق و الإثارة داخل الدرس ، اعتماد المدرس أساليب الإيضاح المناسبة لكل درس على حدة .
ثمة وجود العديد من أساليب الإيضاح المعتمدة في العملية التربوية ، كالجداول والخطاطات و الترسيمات ، وغيرها من الأساليب المناسبة التي لا ينبغي للمدرس أن يدَّخر شيئا منها في إنجار الدرس ، بل عليه أن يختار منها ما يراه مناسبا للدرس أو لقضية جزئية فيه ، ومعلوم أن استعمال هذه الأساليب يقتضي خبرة وتجربة ، كما يتطلب من المدرس الإعداد الجيد والتفكير العميق المسبق في الوسيلة المناسبة للمكان الناسب ، في الدرس المناسب ،من أجل تحقيق هدف أو كفاية ما .
وكلما كان الدرس خاليا من هذه الأساليب المساعدة على الفهم و الإفهام كلما نفر المتعلم منه ، لأن هذا الأخير سيما إذا كان مراهقا لا يبدل الكثير من الجهد في فهم الخطاب و استيعاب العديد من جزئياته ، وإدراك مقاصده ومراميه ، ولا يقوى المدرس على شد انتباهه وتشويقه ، إلا إذا وظف بعض أساليب الإيضاح المناسبة ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق ببعض المعارف التي ربما قد يراها المراهق جافة أحيانا ، ولا تثير الدافعية نحو التعلم ، كدروس الإرث الخاصة بمادة التربية الإسلامية مثلا، التي لا يمكن أن ينشد المتعلم إليها ، ويتشوق في معرفة تفاصيلها ، بدون حضور بعض الأساليب المعينة على ذلك .
وتجد الإشارة إلى أن جميع الدروس ليس مطلوبا وضروريا أن يوظف فيها المدرس أساليب الإيضاح ، فالبعض منها لا يحتاج إلى هذا الأمر ، بقدر ما قد يحتاج إلى عناصر أخرى ، كالتي سبقت الإشارة إليها ، والتي ستأتي لاحقا .
- تنظيم وترتيب التعلمات ، واعتماد أسلوب التدرج مع المتعلم ، واستدراجه لإيجاد الحل بنفسه.
إن القضية التي يناقشها الدرس كيف ما كانت ، إذا اعتمد المدرس فيها أسلوب التدرج ، فإن المتعلم ينقاد إليها .
أن يعمد المدرس إلى اختصار قضية ما ، ويعرضها عرضا مسترسلا بدون مقدمات ولا ممهدات ، لاشك أن هذا الأمر من بين أقوى الأسباب المنفردة من الدرس ، لذلك ينبغي للمدرس أن يتفنن في اختيار واصطفاء الأسئلة البنائية المناسبة التي تثير فضول المتعلم ودافعية للتعلم . كثيرًا من المدرسين يشكون من كون المشاركة الصفية ضعيفة ، وغير مشجعة لهم ، لكن قلما يعيدون النظر في كيفية صياغة الأسئلة .
إن المراهق يحب الفضول ويتسم بالجرأة ، ويحب دائما أن يكون له السبق في الوصول إلى الحل و الجواب الصحيح ، فلماذا لا تستثمر هذه العناصر ، فيستدرج المدرس المتعلم بأسئلة بنائية يصحح من خلالها التمثلات الخاطئة ، و يغير القناعات السلبية ، ويترك المتعلم في النهاية يكتشف الحل بنفسه .
إن اعتماد أسلوب التدرج في بناء الدرس من أقوى الأسباب المعينة على أخذ انتباه المتعلم وتشويقه في الدرس ، وقد أبانت التجربة هذا الأمر .
- مرونة المدرس خاصة في التعامل مع الأسئلة، بأن يطرح السؤال بصيغ مختلفة تثير الحافزية عندما تقل المشاركة خصوصا.
ينبغي للمدرس أن لا يتملكه اليأس ويستحوذ عليه الملل ، ويفقد الأمل عندما يجد فئة من المتعلمين لا يتفاعلون معه ، قد يكون المشكل في الصيغة التي طرح بها السؤال ، أو يحتضن السؤال عبارة غير مفهومة ، أو لا يسمع جزء منه ، والمدرس الماهر هو الذي يتصف بالمرونة في درسه كله ، فيعيد طرح السؤال بصيغ مختلفة ، ويجرب كل الطرق التي بواسطتها يتحقق الفهم و الإفهام ، قد تكون طريقة واحدة من بين عدد كثير من الطرق هي المناسبة في إفهام جزئية معينة ، إذا لم يكن المدرس مرنا ومسددا ومقاربا ، ومفتشا عن الحلقات المفقودة بينه وبين تلامذته ، لا يستطيع أن يشد انتباههم ويجلبهم إليه .
إن مسألة المرونة من بين أهم العناصر التي تضخ الحياة في الدرس ، والمرونة تقتضي الصبر، إذا لم يكن المدرس صبورًا لا يمكن أن يكون مرنا ، والصبر مطلوب في العلمية التربوية ، بل إنه من آكد الأمور، لأن التعامل مع العنصر البشري ليس بالأمر الهين كما سبق وأن أشرنا ، قد يستفز التلميذ المدرس ، قد يتجرأ عليه ؛ لأن المراهق من سماته الجرأة ، قد يكون عنيدًا ، أو مشاكسا ... كل هذه مواقف تستدعي الصبر والمرونة والتعامل بالحكمة في معالجتها ، وأشد الناس صبرا الأنبياء لذلك نجدهم من أعظم المربين و المعلمين ، وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي سبق النظريات التربوية في عدد كثير من الفقرات .
- إفساح المجال للحوار بين المتعلمين .
هذه النقطة لها من الأهمية بمكان ؛ حيث أن المتعلم ينتبه لزميله ويصغي إليه أكثر من المدرس ، ويغفل عنها العديد من المدرسين بحجة أن الوقت لا يسمح لهم بذلك ، وقد ثبت بالتجربة أنه كلما طلب من التلاميذ التعقيب عن تدخل زميل لهم ، أو إبداء أرائهم حول وجهة نظره ، تجد عندهم رغبة زائدة في المشاركة ، وأنا شخصيا أحب أن أترك المجال للحوار بين التلاميذ خاصة إذا كان الأمر يتعلق بنشاط معين كندوة أو محاضرة ، حيث أجدهم يتشوقون أكثر في الانخراط في الدرس، ويزداد تشوقهم عندما يكون الأمر يتعلق بقضايا وظواهر تخصهم ، لهذا ينبغي أن يفكر المدرس ـ كما سبق وأن أشرنا ـ في كل درس في قضية من قضايا الشباب يجعلها منطلقا في إنجاز درسه ، ثم إن المدرس تكون عنده فرصة من حوار المتعلمين يكتشف من خلالها تمثلاتهم وانطباعاتهم ، وأنا أعتقد أن معرفة تمثلات المتعلمين جزء أساسي في إنجاح الدرس، ولهذا أعمد في غالب الأحيان في اقتراح بعض الشبهات التي تستفز أذهان التلاميذ وأترك لهم المجال لإدلاء أرائهم حولها ، خصوصا عند بداية كل درس ، فيكون الإقبال على المشاركة مكثفا بشكل غير مسبوق .
- الابتسامة الدائمة والحركية المتوازنة داخل الفصل، وتوزيع النظر على مجمل التلاميذ، وحسن الإصغاء إليهم.
هذه عناصر قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة ، ولكن التجربة أيقنتنا أن لها تأثيرًا عميقا جدًا في شد انتباه المتعلم وتشويقه للدرس ، وغالبا ما يكون الجفاء في العلاقة بين المدرس و المتعلم سببا في نفور المتعلم وعدم إقباله .
الابتسامة لوحدها ، لها تأثير كبير في نفس المتلقي ، تجعله يشعر بانتفاء الحواجر بينه وبن مدرسه ، و تخلصه من التحرج والتخوف من الخطإ ، فيقبل بكل تلقائية ، ويشارك بما يملك من مؤهلات . بعض المدرسين يعتقد أن الابتسامة داخل الفصل تعبير عن ضعف شخصية المدرس وعدم صرامتة ، والحق أن جدية المدرس وصرامته شيء ، و ابتسامته في وجوه تلاميذه شيء آخر.
أما حركية المدرس داخل فصله وحيويته ـ وهذا ما سنراه في العنصر اللاحق ـ دليل على جديته واهتمامه ، كلما أحس المتعلم بجدية مدرسه كان ذلك من دواعي الإقبال عليه وأنا شخصيا لا أستطيع أن أشد انتباه المتعلمين وأشوقهم في الدرس بدون هذا العنصر ، خاصة إذا كان القسم مكتظا بالمتعلمين . كما ينبغي على المدرس توزيع النظر على جميع تلاميذه ، إشعارا لهم بأنهم محط عناية و اهتمام وتقدير، فكلما أشعرت المتعلمين بقيمتهم ، وأظهرت الاهتمام بهم ، أسرت قلوبهم وملكتها ، ثم إن التلميذ ينتبه بسرعة عندما تنظر إليه إذ يحس أنه معني بالخطاب ، وتتولد لديه حافزية قوية كلما نادى عليه المدرس باسمه.
أما الإصغاء للمتعلمين فهو من أعظم الوسائل التي تجلب قلوبهم للدرس ، والناس عموما يحبون أن يسمع إليهم ، ثم إن هذا الأمر من بين المهارات المطلوبة في التواصل التربوي، ونحن هنا نتحدث عن أثره في تشويق المتعلمين للدرس و المدرس،
ليكون المدرس مستمعا ماهرًا عليه أن ينصت جيدًا لمتعلميه ، وأن يكون متابعا ومتفاعلا ، ومبتسما وهو يستمع إليهم ، ذلك كله له أثر عميق في نفوسهم ، حيث يشعر المستمع إليه بأن له قيمة ، وقد يخترع قصصا وبطولات لأجل أن يهتم الناس به ، فيكتسب بذلك المدرس حب تلاميذه له ، وإذا أحبوه أحبوا درسه وتشوقوا إلى معرفة تفاصيله .
الوقت الذي ينبغي للمدرس أن يستغله في الاستماع إلى متعلميه هو عند بداية الدرس عندما يعرض الوضعية المشكلة التي تثير تمثلات العديد منهم ، وقد سبق وأن أشرنا إلى هذا الأمر في عنصر " إفساح المجال للحوار بين المتعلمين " .
- جدية المدرس و حيويته.
لا يمكن بتاتا أن يتواجد عنصر التشويق في الدرس ، والمدرس لا يتمتع بقدر من الجدية والحيوية ، فهما أمران متلازمان، ومتطابقان . المدرس الذي يتملَّكه الارتهان والكسل ـ وكثير ما هم ـ ، يصعب عليه ، إذا لم نقل يعسر عليه أن يجعل المتعلم يحظى بنصيب من التشويق في الدرس ، لأنه لم يأخذ بأسباب ذلك وعوامله .
أحب أن أشير هنا إلى نقطة مهمة ، هي رأس الأمر وذروته في نجاح الدرس ، ألا وهي قابلية المدرس لإنجاز درسه .
كثيرا ما نتحدث عن قابلية التلاميذ للتمدرس ، ونشكوا من ضعف هذه القابلية ، هذا الأمر صحيح ، وهو في تراجع مستمر مع كامل الأسف ، ولذلك أساب وعوامل كثيرة ليست موضوع حديثنا ، لكن هل سألنا يوما ما عن قابلية المدرس لإنجاح درسه ، قبل ولوجه للفصل الدراسي، كثيرًا من المدرسين بمجرد دخولهم للفصل يتملكهم شعور وكأنهم في صندوق مقفل ، ينتظرون الوقت الذي يرن فيه الجرس للخروج . كيف يمكن للمدرس الذي ينتمي لهذا الصنف ، أن يخلق أجواء من التشويق و الإثارة داخل الفصل ؟ خلاصة الأمر : إن فاقد الشيء لا يعطيه .
إن حيوية المدرس و جديته و قابليته ، من أهم الأسباب المعينة على التشويق و الإثارة داخل درسه . ولا يمكن للمدرس أن يكون حيويا وجديا إذا لم يكن دائما يبحث عن الجديد الذي يثير المتعلمين في الدرس ويأخذ بأذهانهم ، لا يمكن أن يكون المدرس حيويا إذا كان يعتمد على الكتاب المدرسي المقرر ، ولا ينصرف عنه قيد أنملة ، ولا يمكن أن يتحقق هذا كله إذا لم يكن المدرس رجل عصره وزمانه ، متتبعا ومواكبا للمستجدات ، ومطلعا على كل ما يجري في واقع المتعلم الفكري و الثقافي و الأخلاقي ...
- الاقتصاد في الخطاب وحسن استعمال الكلمات والمفردات.
جملة من العناصر المساعدة على إيجاد عنصر التشويق و الإثارة داخل الدرس ، تتعلق أساسا بخطاب المدرس ، وكلما كان المدرس مجددًا لخطابه معتنيا به ، مصطفيا لما يصلح فيه وما يجعله يلامس متطلبات المتعلمين واهتماماتهم ، كلما استطاع أن يجلبهم إليه ويشوقهم فيه ، ومن جملة ما ينبغي للمدرس أن يأخذه بعين الاعتبار : الاقتصاد في الكلام .
إن الاقتصاد في الكلام مهارة من المهارات المطلوبة خاصة في التواصل التربوي ، ويقتضي هذا الأمر أن يكون الكلام دقيقا ومختصرًا وهادفا ، وأن يميز المدرس بين ما يجب قوله ، وما لا داعي لقوله ؛ بأن يختار من المفردات و الجمل والعبارات ، ما يصلح لدرسه ، وما يكون مساعدًا للمتعلم على الانشداد و الانتباه إليه ، ينبغي للمدرس أن يختار من الكلام ما يمكن أن يحبه المتعلم المراهق ؛ لأن من أساليب جلب الناس وإثارتهم اختيار الأحاديث التي يحبونها ، طبعا إذا كانت تنسجم ولا تتعارض مع مقاصد المخاطب أو الدرس ، وكلما كان الكلام مختصرًا كلما كان علميا و أكثر إقناعا للمخاطب ، إذ الخطابات التي يكون في استرسال غالبا ما يطغى فيها الجانب الأدبي الشاعري على الجانب العلمي . البعض يعتقد أن جودة الدرس ومعايير نجاحه مرهونة بكثرة الكلام والاسترسال فيه ، والحقيقة أن المتعلم خاصة المراهق غير مستعد للاستماع طويلا ، لأنه يحب الفضول والـتعقيب ، ولا يتمتع بالصبر الكافي على المخاطب ، ولهذا ينفر العديد من المتعلمين من الدرس بسبب هذا الأمر ، وقد أبانت التجربة على أن الاسترسال في الكلام لمدة خمس عشر دقيقة ، أو حتى أقل ، غير مشجعة على جلب المتعلمين وتشويقهم في الدرس .
ومن مقتضيات الاقتصاد في الخطاب ، أن يكون هذا الأخير خاضعا لإعداد جيد ، والإعداد للدرس ينبغي أن يتم التركيز فيه على الخطاب و لا يتحقق بمجرد الرجوع للكتاب المدرسي والبحث عن بعض المستندات البيداغوجية . إن الإعداد المثمر هو الإعداد الذهني ؛ كأن يجلس المدرس ويفكر جيدًا في درسه ، ويفترض أنه داخل الفصل الدراسي أمام تلاميذه ، ثم يختار في الخطاب ما يناسب الفئة المستهدفة ، ويفكر جيدا في الأشياء التي يمكن أن تثيرهم وتشوقهم.
إذا لم يخضع خطاب المدرس للإعداد المحكم ، فلا محالة أن سيقع في الارتجال والاجترار، وهذه العناصر غالبا ما تحكم على الدرس بالفشل .
هذه جملة من العناصر التي تضخ الحياة في الدرس ، و تخلصه من الجمود و الرتابة ، وتشحن عزيمة المتعلم ، و توقظ حب التمدرس فيه ، وتجعله ينقاد إلى الدرس والمدرس بكل طواعية وتلقائية ، وهي في الحقيقة ليست مستحيلة أو صعبة المنال . قد يعتقد المدرس أن الموضوع المعالج لا يساعد أحيانا على إيجاد عنصر التشويق فيه ، لكن العناصر التي سبق أن عرضناها هي ترتبط في الجوهر بالجانب المهاري الذي يتمتع به كل مدرس ، إن هذا الأخير هو الذي يملك زمام الأمور ، وهو الذي يحكم على الدرس بالنجاح أو بالفشل ، والواقع أن هناك مواضيع جد مثيرة ، لكن الأداء المهاري يحكم عليها بعدم النجاح ، والعكس صحيح .
مجيد الحداد أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
منقول